• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الطيران على إرتفاع 1000 دقة قلب

د. سناء الشعلان

الطيران على إرتفاع 1000 دقة قلب
  تُحب الطيران، تُحب أن تأخذ شهيقاً عميقاً، ثمّ تغمض عَينَيها، وتنزلق في الهواء، تنزلق فيه كسمكة منسربة بأجنحة من نور، تواجه الريح بجسدها المشروخ وعَينَيها المستكينَتَين، وإبتسامتها الغارقة في الهواء، تُفكِّر كثيراً في أن تقابل الريح بنظرة متحدية تشمل الفضاء والأرض وطيورهما، تتمنى أن ترصد من علٍ تكوُّر جسدها، واستسلام عضلاته للريح، الخاضع لجبروت الجاذبية، تزداد دقات قلبها، تعجز عن تحمل فكرة التحديث إلى جبين الأرض، ليته كان يمسك يديها، ليت نظراته المنكفئة في الكتاب تطالعه بلا ملل، وتمتد أيد تمسك بيديها، وتنطلق معها في الفضاء.. ليته يفعل ذلك، ليته، وتسقط من أعلى قمة.. وتهوي بسرعة جنونية إلى الأرض، يتقلص قلبها الصغير، ويستسلم للإنسحاق. تستيقظ مرعوبةً، غارقةً في حبيبات العرق التي تغزو جبينها الناصع، وجسدها الصغير، تطالع ما حولها برعب سرعان ما يتحوّل إلى إرتياح، تدرك أنّ حلم يقظتها ونومها مازال يطاردها، ترتخي عضلاتها المتوثبة، بالتدريج يختفي وجيب قلبها من أذنيها، تنزلق في منامتها الوردية بإرتياح، تتيقن أنّها الآن في مأمن من كابوسها اللعين، تتمطى على أمل أن تهبَ جسدها راحةً ما، لكن تيبس جسدها، وانشراخه دون هواها يعوق حتى الإستلقاء المرجو، جسدها جُله ينحني بإنكسار إلى الميمنة، مع تراخٍ وقِصر واضحين لصالح الشق الأيمن. يرتكز جسدها النحيل على قدمها اليُسرى دون اليُمنى التي تقصر دون أختها سنتيمترات كثيرة، وتبقى متدلية بتراخ في الهواء، لا يمكنها أن تسير إلا إذا ضعطت بعزم كف يدها اليسرى عليها، فتدفعها إلى الأرض، مكونةً إنحناءةً كسيرة نحو الأرض، تسير أو لنقل إنّها تحجل، يرهقها المشي كثيراً، لأنّ القليل منه يعني كيلوغرامات عديدة ترتكز على قدم واحدة، تتوازن بفضل عمود فقري يعاني الكثير من المشاكل في فقراته المنزلقة والمضغوطة في أكثر من مكان. ولكنها لا تزال تحب الطيران، وتحب خلجاته الهادئة العميقة، وتحب ذلك البيت الخشبي الصغير الذي قصف سعادتها، وكوى جسدها الطفولي من دون رحمة. كانت طفلةً شقية، تحلم بالنور والطيران، الحت على أهلها أكثر من مرّة كي يدفعوا بها إلى أي نادٍ قد يمكِّنها من التحليق الشراعي، ولكن أمّها أصرّت على الرفض، لخشيتها عليها، وكانت تذكرها دائماً بالمصير المأساوي الذي لاقاه الحالم الأسطوري بالطيران عباس بن فرناس، كانت تمزح قائلة: "مَن يحلق في السماء، تموت أمّه حزناً" لتثنيها عن الطيران، لكن الأجنحة الشفافة ذات البريق السماوي بقيت تناديها من دون فتور، واستجابت لها، تسلقت أعلى شجرة في مزرعة بيتها، سارت بحذر شديد على أحد أغصانها الوارفة، كادت تنزلق أكثر من مرّة، وأخيراً انتصبت على غصن يُطل على منحدر القرية، راودتها رغبةٌ جارفة في أن تُطعم جسدها للريح، وأن تنزلق في طياته البلورية، لكن صراخ أمّها وتوسلات أبيها، وتحذيرات الجدة، حولت رغبتها إلى زبد هوائي يغلفه خوفٌ طفولي لذيذ. قالت لها الأُم بتضرُّع: "إيّاكِ يا حبيبتي أن تتحرّكي، الزمي مكانكِ". قالت بنبرة طموحة متحدية: "ولكنني أريد الطيران". قالت الأُم بنبرة ترجِّ مفعمة بشهقات وزفرات: "ليس الآن في ما بعد...". قالت: "ولكن الريح مناسبة الآن للطيران". قال الأب الذي طفق يتسلق الشجرة، وكرشه الصغيرة تضطرب مرّةً وتلتصق مرّةً أخرى بلحاء شجرة السنديان العتيقة: "لا تتحركي، اثبتي في مكانك حتى أنزلك...". ردّت وهي تُهيِّئ نفسها لدفعة بكاء طفولية سخية يعلوها عناد وتململ: "ولكني أريد الطيران...". كان من المتوقع أن تُرسل الشجرة جسدها قطعاً مكسرةً، لكن ذلك لم يحدث، وأنزلتْ قسراً عن الشجرة، وهي تبكي، ويداها لا تزالان مشرعتين طولياً إستعداداً للطيران. وبعد تعنيف طويل، ونصائح أطول، استقرّت العائلة على تسوية ترضي جميع الأطراف. فقد سُمح لها بأن تراقب طيور السماء من دون أن تطير، واشترطت عليهم في سبيل الإلتزام بذلك، أن يبنوا لها كوخاً خشبياً صغيراً معلقاً على أعلى شجرة سنديان. وبعد أخذ ورَد، نزلت العائلة على رغبتها الطفولية المشرعة في أرض الأحلام. وكان الكوخ الخشبي الصغير المعلق في الهواء، الذي بناه والدها بدقة واهتمام لكي تكون إبنته في مأمن، وتحققت أمينتها الصغيرة، كانت طائرةً ليلَ نهار، وهي في كوخها تشعر بأنّها حرّة طليقة في السماء، كان في جوارها الكثير من الجيران، فغصون السنديانة الممتدة الوارفة تزخر بأعشاش الطيور. كانت تعرف جيرانها العصافير فرداً فرداً، وتعرف موعد فقس بيضها، وتراقب سلوك فراخها، وتسمح لنفسها أحياناً بتقديم بعض الديدان وجبات إضافيةً للفراخ الصغيرة. وقد لاحظت أنّ للفراخ سقسقسةً خاصةً في طلب طعامها، أصغت إليها طويلاً، ثمّ قلدتها ببراعة. وكادت تطير فرحاً، عندما عرفت أمّها معنى هذه السقسقة، وقدمت لها الطعام كلما أقبلت عليها مسقسقةً طامعةً في الطعام. ولكن الكوخ الخشبي كسرها، بل كسرتها شجرة السنديان التي استسلمت أغصانها، وهوت إلى الأرض حاملةً معها الكوخ ونور، الكوهخ سلِم إلا من كسور صغيرة، أما هي فقد تحطمت إلى الأبد. حلمت طويلاً بأنّها تطير بسعادة وبخفة، ولكن عندما استیقظت من غيبوبتها، وتفرست الأجهزة الطبية التي تحاصرها في المستشفى. وبعد أن تحررت من الجبس والدعائم، عرفت أنّها قد تحطمت إلى الأبد، وأيقنت أنّ السير الطبيعي بات أمنيةً ضائعةً، فضلاً عن الطيران الذي بات محرماً، وباتت قعيدة الفراش، أسيرة البيت، إلا من لخحظات تسرقها من البيت الخشبي، الذي انغرس من جديد بين أغصان السنديانة بناءً على رغبتها، التي ما استطاع والدها أن يردها لطفلته المهشمة. عاتبت طويلاً شجرة السنديان التي استسلمت للإنكسار، وقدمتها للعجز، وعندما طال صمت الشجرة كرهتها، حتى إنّها فكّرت في قطعها إنتقاماً منها، ولكن جيرانها الطيور كانوا خير شفيع لموطنهم الشجرة، لاسيما أنّهم قدموا كذلك ضحايا من فراخهم في كارثة تحطُّم أغصانها، وتحطُّم الكوخ الخشبي. كادت تنسى حلم الطيران، كان يكفيها عبء تجنُّب النظرات الفضولية التي ترقب سيرها الخرافي، كانت النظرات الموزعة بين السخرية والشفقة والفضول كافيةً لقتلها، ولكنها صمتت بشموخ بازٍ يسكن السوامق على الدوام، لسنين طويلة جرّت شقها الأيمن الموتور بعظامه، درست الهندسة الزراعية، وتخصصت في الإنتاج الحيواني، وغرقت في عالم الطيور الذي تحفظ عن ظهر قلب لغته وسقسقته اللذيذة. وكادت تنسى كلام البشر، إلا من بعض المفردات، لكن ظهوره السعيد في حياتها جعل عندها رغبةً ملحةً في قول كلمة بعينها، كلمة واحدة تلخص تاريخ البشرية جمعاء، كلمة جامعة لكل تاريخ التمني والإشتهاء والرغبة، كانت تريد أن تقول "أحبّك.. أنتَ بالذات"، فكّرت طويلاً في تهجية هذه الكلمة بلغة العصافير، وما اهتدت إلى ذلك. كانت تمضي الساعات قُبالته على طاولة بعيدة عنه في مكتبة الجامعة، كان يأتي قبلها، ويبدو أنّه كان يغادر بعدها، لأنّها كانت تغادر قبله بإستمرار، كان هادئاً كليلة تسبق عاصفة، في عينَيه بريقٌ لا يعرف معناه إلا مَن جرّب متعة الطيران. تعمّدت طوال أشهر عديدة أن تدخل من الباب الجانبي للقاعة، وهكذا تحرم الهادئ الذي يجلس بعيداً من إمكانية مراقبة جسدها الذي تجره على مهل، ثمّ تنزلق سريعاً في خطوة واحدة في أقرب كرسي، وبذلك تضمن أن لا تتأذى ذكورته بمشهد أنوثتها المشروخة، تخيلت كل اللقاءات المتمناة، تصوّرت كل الكلمات التي يقولها ذكرٌ لأنثى، نسجت في ذهنها كل الإجابات التي تجيب أنثى ذكراً بها، ولكنها أبداً لم تفلح في وضع تصور لرد فعله عندما يعرف حقيقة جسدها المصهور. لكن سرعان ما تلهي نفسها عن هذا القلق الملح بسقسقة سعيدة لحنتها وَفق كلمة: "أحبّك". كانت تكفيها متعة مراقبته طويلاً، لكنه كان يريد أكثر من متعة المراقبة على ما يبدو، هذا ما فهمته من تلك الزهرة الحمراء التي وجدتها على المنضدة التي اعتادت الجلوس إليها، عندما أدنتها من أنفسها لتشمها لمحت إبتسامته وإيماءة عَينَيه، فأدركت أنّه صاحب الزهرة العاشقة. فكّرت طويلاً وهي تقلب الوردة الحمراء لليال طويلة في جسدها، وتخيلت أنّه قد رسمها بقدٍّ يشبه جمال قدّ الزهرة، فاغتمت وهي تتحسس جسدها الضامر الملتوي، ثمّ توقفت عن التفكير، وإن لم تتوقف عن التأوه. لكنه قرر أن يأخذ الخطوة الأولى وإن خشي أن تكون الأخيرة، اقترب منها، لم تشعر به إلا وهو يُلقي عليها تحية المساء بصوت رخيم حالم، كادت الفرحة تخنقها، لكن الدهشةَ المشوبةَ بالوجل ألجمتها، لقد اكن من نزلاء المقعد الرمادي، لقد كان مُقعَداً، بل أسيراً في مقعد متحرِّك، قطع صمتها ورفيف دهشتها بقوله: "أنا مُقعَد منذ سنوات بسبب حادث مؤسف، واحتمالات الشفاء معدومة". ابتسمت على وجل، وقالت له وعيناها مغروستان في الطاولة التي أمامها: "أتحب الطيران؟". مدّ يده ذات الأديم المشعوعر نحو ذقنها، ورفعه لتصبح عيناها قبالته تماماً، وقال: "أكثر ممّا تتخيلين". وطالت القصة.. أو قصرت.. بالتحديد أصبحت بطول وقفتهما بالقرب من جرف عالٍ، استطاعت منه أن تريه سنديانتها القاسية، وأن يريها المستشفى الذي رقد فيه أشهراً بعد أن أُقعد، حدَّثها طويلاً، فحدَّثته مدّة أطول، سمعها، وسمعته، وأحياناً لم يسمعها، وفي بعض المرّات لم تسمعهز. كان قلب كل منهما يخفق بمعدل 1000 دقة في الدقيقة. استند غلى كرسيه الرمادي وإلى مساعدتها لينتصب بصعوبة، ثمّ تهالك في حضنها الصغير، الذي كان أيضعف من أن يحتمل جسديهما، انهارا ضاحكين على الأرض، قرب الجرف تماماً.. غرقا في عيون بعضهما، أومأت بخجل، ثمّ سقسقت، وقالت: "أحبّكَ". سقسق على منوال ما فعلت وقال: "أحبّكِ...". انتصبَ من جديد بمساعدتها بصعوبة بالغة، أشرعا أيديهما التي أنهكها التعب ليطيرا، حدقا إلى البعيد، حيث مسقط الشمس، تحديا الجاذبية والريح، أخذا نفساً عميقاً، ملآ رئتيهما بشيء لذيذ إسمه "الحب"، وطارا... طارا على إرتفاع ألف دقة قلب.

ارسال التعليق

Top